الخميس، يناير 05، 2012

عن الاضحاك كمسألة سخيفة.

تمام. دعنا نختصر المسافة ونبدأ من حيث نحن الآن.

هنا، على هذه الشبكة غريبة الأطوار (لست عنصرياً تجاهها، بإمكاننا وصف أي شيء بأنه غريب الأطوار)، هنا، أكتب يومياً أشياء كثيرة، جمل قصيرة وتعليقات على العالم الذي نعيش فيه (بالمناسبة، هو أيضاً غريب الأطوار)، بعد الكتابة، أصبح بالإمكان الحصول على تعليقاتك واستحسانك لما كتبت. وهذا شيء يبدو طبيعياً.

ما الذي فعلته لك إذن لتصفني في مناسبات مختلفة بأنني قادر على اضحكاك؟. أرجوك، أعط للأمر بعض الأهمية وعامله بجدية كافية.

في الحقيقة، الأمر يطول شرحه. سنحتاج وقتاً طويلاً أتمكن خلاله من شرح نظريتي الخاصة في المسألة، وعرض أهدافي التي أكتب لأجلها، في الواقع (وأعلم أنك ستجد هذا محبطاً)، فإن مسألة اضحاكك لا تشغلني على الإطلاق، لا تهمني، بل أنها تزعجني من آن إلى آخر.

لنوضح المسألة، أنا غير منزعج لكونك تضحك، من حقك أن تفعل، وطالما اتفقنا أن العالم غريب الأطوار (أتمنى لو توافقني)، فإنك تملك الحق والحرية في الضحك وقتما شئت، ولأي سبب كان. أعرف أشخاصاَ يضحكون في مواقف لا تسبب الضحك في العادة، في الجنازات، في المساجد، في صالات الدرس، وحتى وهم يتغوطون، هذه حريتهم الشخصية، ولأن الوقت ضيق، (الوقت بشكل عام ضيق، كلنا نعرف ذلك)، فإن مسألة التفكير في الأسباب التي تجعل الناس تضحك تبدو وكأنها عديمة الفائدة. إذن، من حقك أن تضحك، ومن حقك أيضاً أن تراني مضحكاً. لكن، قليل من الرحمة أرجوك.

لنشرح أكثر، عندما أدركت قبل دقائق أنني موجود بالفعل في هذا الكوكب، فكرت في الأشياء اللطيفة التي يمكنني فعلها. تمنيت أمنيات كثيرة، أغمضت عيني دقيقة وحلمت، رأيت أشياء كثيرة، رأيتني أكبر، أنجح، أفشل، أضحك، أكتب، أقرأ، أبحث في المسائل التي تشغلني، أسافر، أتزوج، أصير أباً، أموت.. لكني لم أراني أبداً أقوم بإضحاكك، هذه إذا مسألة لا تعنيني، لا تهمني، يزعجني وجودها، ذلك أنه حال اتفقنا أننا صرت اضحكك، فإن المسألة تلزمني بقدر من الجهد، وفي الواقع، فإني غير مستعد له، ولا حتى أقابله بأدني قدر من الترحيب اللازم.

ثم أن مسألة اضحاكك مهمة للغاية، الضحك (في نظر البعض ولست منهم) يرتبط بالسعادة لسبب أو لآخر، وبغض النظر عن كون هذه مسألة سخيفة. لكن، دعنا نستكمل الحديث عبر النظرية ذاتها، أنت بحاجة لأن تضحك، والضحك يجعلك سعيداً، والسعادة مسألة مهمة في هذا الكوكب. كيف تضع مسائلك المهمة إذن في يد شخص يبدو (بل أنه يعلن ذلك صراحة) أن المسألة لا تعنيه ولا تهمه، بل أنه يراها سخيفة؟. فكر في الأمر دقيقة، ولعلك توافقني بعدها.

طيب، سنفترض أن مسألة سعادتك قابلة للمغامرة من ناحيتك. هذه حريتك الشخصية. ما الذي فعلته لك لتجبرني على التواطؤ معك. قلبك الطيب؟، صدقني، في الكوكب من يستحقون ذلك، بل أنني أرى هذه الأيام، أشخاص (يمكن ملاحظة غرابة الأطوار في سلوكهم) يفتخرون بأن لديهم القدرة على اضحاك الناس، بل أن الأمر تجاوز ذلك، بحيث تفرغوا لهذه المهمة وصار اكتساب قوت يومهم مرتبط بالضحك الذي تضحكه. وأنا، من ناحيتي، لدي وظيفة مؤقتة أراها معقولة وجيدة (وغريبة الأطوار أيضاً)، ومن السخيف الجمع بين وظيفتين في وقت واحد. لذا، أرى، من باب العدالة الاجتماعية (وقد كانت أحد أهداف الثورة لو تذكر) أن يحصل على الضحك الذي تحتاج منهم، وتتركني وحدي أمارس الأشياء التي أردتها، بعدما اكتشفت وجودي في هذا العالم منذ دقائق.

ثم، في هذه الأيام، يدور نقاش طويل حول الأشياء، كل الأشياء، في التلفاز، على المقاهي، في المساجد والكنائس، أصبح عادياً أن تسمعهم يضعون نظريات حول كافة المسائل. الحب، الثورة، الدولة، الميدان، المجلس العسكري، النساء، الموت. وكما تعلم، فإن الضحك مرتبط بكافة الأمور السابقة. إذن، فالمسألة خطيرة. خطير أن تضحك، والأخطر، أن توصف بأنك قادر على اضحاك البشر، وكمواطن يحاول قدر الإمكان أن يكون صالحاً (اقرأ الجرائد، وحفظت مؤخراً نصف بيانات المجلس العسكري، وذهبت مرتين إلى ميدان التحرير، ثم جلست على المقهى مرة)، لست مطمئناً لفكرة المغامرة والتورط في جعل الناس تضحك، بإمكانهم الضحك (أكرر، هذه حريتهم)، لكن، لا علاقي لي بالمسألة.

دعني اسألك، ما الذي سأستفيده مثلاً إن انتشرت فكرة تؤكد قدرتي على اضحاكك؟، في الواقع لا شيء. دعنا إذن نحسبها جيداً، أمر لم أخطط له، ولن أستفيد منه، ولا حماسة لدي لفعله، تعتقده أنت وحده ولا أشاركك الاعتقاد به (سمعت أنهم يتحدثون هذه الأيام عن حرية الاعتقاد بهدف كتابة إعلان دستوري حول المسألة)، أمر كهذا، أليس من الأفضل له، ولي، وللسلطات المعنية، وربما لك بعد أن تفكر جيداً، أن يختفي في هدوء. وننساه كما نسينا غيره.

دعني أفترض أن الحيل السابقة لم تفلح معك. سأفعل ذلك، سأخاطب قلبك إذن. تأمل معي حال الذي أضحكونا يوماً ما، هل يرضيك أن يفقد شخص مثلي زهرة شبابه (لم أرى في شبابي أية زهرة بعد) ويتحول إلى مصير هؤلاء، ويا ليتها رغبتي، بل أنها رغبتك. الرحمة إذن. دعني وشأني. أرجوك، لا لا، لست غاضباً، أحاول فقط أن أبدو متأثراً بالمسألة، شكراً.

ما المعني الحقيقي لفكرة أنني قادر على اضحكاك؟، هل أصير محترماً؟، هل أظهر على التليفزيون؟، هل أذهب إلى الجنة بعد موتي؟، كلها مسائل غير مضمونة. ثم أنك (اعذرني، الأمر بحاجة إلى صراحة) تصفني وصفاً مؤلماً، يعني، أنا مثلاً أقدر الدهشة، أحبها، أحترمها، أفضل لو أنك أخبرتني بأني قادر على إدهاشك، كان ليصبح بمقدورنا التفاوض والتفاهم حينها، لكن اضحاكك، هكذا، دون مقدمات، دون سابق معرفة، دون صلة قرابة، دون أن تكون من المسئولين عن إدارة شئون البلاد، توء.. لا أعتقد.

دعني اسألك، هل أعمل لديك مثلاً؟، سمعت أن زمن العبودية انتهى. بإمكانك أن تخبرك زوجتك أو الفتاة التي تحب أنها قادرة على امتاعك، هذه حريتك وحريتها، لكني لا أقدم لك خدمة شبيهة. لا أقدم لك شيئاً أساساً. لماذا تتطوع إذن بقول ذلك؟، هل حصلت على تصريح؟، أرني بطاقتك الشخصية من فضلك، ترى، لا توجد إشارة لحقك في فعل هذا. احترس، يطبقون القانون هذه الأيام، ولا استثناء لأحد.

علينا أن نواجه الأمر، يعني، بإمكاننا في المستقبل، أن نتفق على ما هو مسموح وما هو ليس كذلك (يكتبون الدستور هذه الأيام وسيتناول كافة المسائل، لا تقلق). أقترح أن نضع حداً ينظم مسألة حرية أي شخص في وصف أي شخص آخر بأي صفة. هذا عدل، (يوجد حزب يحمل هذا الاسم، وبالإمكان مخاطبة المسئولين هناك لدعم القضية)، لأنه في النهاية، نحن لسنا في غابة، للصفات حدود. لكل شيء حدود بالطبع.

اختصاراً للوقت، والجهد، ولأنك بالكاد احتملتني حتى تصل إلى هنا، بإمكاني عرض الأمر مرة أخيرة وبوضوح كافي.

أرجوك، في المرة القادمة، لا تحدثني عن قدرتي على اضحاكك. هذه مسألة سخيفة.

الاثنين، أكتوبر 24، 2011

عن الحكايات والسجائر

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في الماضي، كان صديقي يفكر في المستقبل.

سيقرأ الأصدقاء سطوري، فيعتقد أحدهم أنني أقصده هو، ويعتقد آخر أنني أقصد صديقنا الأول، فيما يظن الثالث أنني أقصد صديقاً آخر رحل بعيداً منذ زمن. شخص آخر، (وهو ليس صديقي بأي حال) سيرى أنني لا أقصد أحد بعينه، بل ربما يستغرق في القراءة معتقداً أنني أقصد نفسي تحديداً، وأن ذلك الصديق، الذي يفكر في المستقبل، لا وجود له في الواقع، هو مجرد ظل داخلي، تطورت علاقتنا بحيث صار صديقي.

جميع الإجابات صحيحة.. جميع الإجابات خاطئة.

(؟)

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في المستقبل..

ذلك أنني أفكر وأفكر وأفكر، فلا أمل، أي لا يصيبني الملل، ولا أمل، أي أنه لا يوجد أمل في أن ينتهي التفكير بالوصول إلى نتيجة.

أفكر، وأكتب، وأفكر، هل كتبت أولاً، أم أن الفكرة خلقت الكتابة، أظل أفكر، وأكتب، وتتوالى الحكاية، تفكير كتابة، كتابة تفكير. حتى إذا ما تعبت، فكرت، أنه من الملاءم التوقف عن الكتابة والتفرغ للتفكير.


تقول الحكاية، أنه بينما كان صديقي يفكر في الماضي، كنت أفكر في المستقبل.

جاءتني هذه الجملة وأنا أغادر المقهى البارد الدافئ. بارد لأن الجو بارد، ودافئ لأني لم أكن وحدي.

لماذا أفكر في المستقبل إذن بينما يفكر صديقي في الماضي؟.

ذلك، أن البدايات مهمة، لكن النهايات أهم. يقولون هذه الأيام أشياء كثيرة تتعلق بأن النهايات حتمية، فكل شيء ببداية له نهاية، هذه حقيقة. لكن البدايات عادة تبقى مفهومة وقادرة على شرح نفسها. أما النهايات، فهي العبث الكامل. وبين البداية والنهاية، تظل الأسئلة (بينهما) تتعلق بـ : "كيف ينتهي الأمر بنا؟"، لا نسأل عادة أنفسنا عن الطريقة التي بدأت بها الأمور. البدايات غير مهمة، المهم، كيف يمكن أن تنتهي الحكاية دون أن ننتهي نحن؟. هذا هو المهم.

لهذا، ربما، أهتم بالمستقبل، رغم أني لا ألوم صديقي أبداً، على اهتمامه بالماضي.

(!)
أكتب وبين أصابع يدي اليمنى سيجارة. سحبتها الآن من علبة سجائري الثانية (اشتريت علبتان فقط طوال عام كامل). أصبحت أشتري السجائر وأدخنها ببطء بينما أنقر وأكتب. (لماذا؟)، رغم أني تعلمت تدخينها منذ قليل.. ربما لأملك القدرة على طلب سيجارة من صديق على المقهى أو زميل بالعمل. تلاءمني جملة "هات سيجارة".. أحبها، أشعر بود حقيقي بينما يفتح أحدهم علبة سجائره ويناولني واحدة.

أصبحنا في عالم منحط، وقح، من الممكن أن يعطيك أحدهم سيجارة بأريحية شديدة، لكنه يراقب نفسه بينما يسمح لك (دون أن يسامحك) بأخذ قدر قليل من مشاعره. صارت السجائر أرخص من المشاعر. وصرت تعيساً لأني أحب أن يعطيني أصدقائي أشياء تخصهم، ويأخذون حكاياتي في المقابل. أحب تبادل التفاصيل بين الأصدقاء. فالتفاصيل الصغيرة، بداية واضحة لحكايات لطيفة، أنا أحب اللطف، فمن اللطف، تولد الدهشة.. ولا قيمة لهذه الحياة دون دهشة.. إذن، لا قيمة لهذه الحياة دون حكايات.

(@)
تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالعبث، كان صديقي يهتم بالمنطق.

رغم أن المنطق مصنوع من العبث. فقبل وجود المنطق، كانت الحياة عبثية، وبمرور الوقت، تراصت مجموعة من العبثيات بشكل عبثي آخر، بحيث أمكن لنا أن نرى في وجودها متلاصقة منطقاً ما. فاخترعنا المنطق، ونسينا بمرور الوقت، أنه في الأساس عبارة عن عبث.

من العبث مثلاً، أن نسمح لأنفسنا بخسارة الأصدقاء، خاصة، ونحن ندرك يقيناً أن الحياة دونهم تعيسة. لكن من المنطق، أن ندرب أنفسنا تدريجياً على الوحدة. على البقاء وحدنا لأطول وقت، بحيث، يزول ألم الفراق سريعاً، ونبدأ في مصادقة أنفسنا.

ذلك أن الصداقة هذه الأيام، صارت كمخدر قوي، يمنعنا من الإحساس بألم وقاحة الحياة وانحطاطها. لكن الحقيقة، أن الحياة تبقى وقحة ومنحطة. نكتشف هذا فقط حين تفاجئنا الوحدة صباحاً، ونلاحظ، كيف أن علينا البقاء وحدنا لوقت طويل، دون أصدقاء، دون حكايات، دون تفاصيل، دون لطافة أو دهشة.. مع اللاشيء.

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالمستقبل، كان صديقي يهتم بالماضي. مع أن علينا سوياً، أن نهتم لأمر أنفسنا.

أفكر، في الابتسام بوجه الأصدقاء والزملاء، وسؤالهم بشكل مباشر.. "هات حكاية".. هل يسحب الواحد منهم علبة حكاياته، ويعطيني واحدة. بذات الرحابة والأريحية، التي يناولني فيها سيجارة من علبة سجائره.


علي أن أتوقف عن طلب السجائر والحكايات. ففي المقابل يجب أن أعطيهم شيئاً ما، سجائر أو حكايات أيضاً. وأنا لا أحمل علبة سجائر عادة، كما أن حكاياتي نفذت. تبقى واحدة وحيدة في العلبة. ممنوع علي حكيها أبداً، ذلك أن البقاء دون حكاية، أسوأ كثيراً من البقاء دون سيجارة، لكن كلاهما مؤلم.

في المرات التي أطلب سيجارة، فيفتح الصديق / الزميل العلبة، ويجد سيجارة وحيدة، يصبح من الواجب أن أتظاهر بعدم الرغبة في التدخين، ليس من اللائق إطلاقاً سحب السيجارة الأخيرة من علبة أحدهم. لكن صديقي / زميلي يتظاهر هو الآخر بأن علي عدم التردد في سحبها، قائلاً أن هناك علبة أخرى جديدة في مكان ما. لكن سحب حكاياتي الأخيرة من علبة الحكايات، يعني، أن الحكايات نفذت بالفعل، وأن علي المواجهة.. وفي الحياة الوقحة المنحطة، عليك، بكافة الأشكال، أن تتجنب المواجهة.

تقول الحكاية أن هناك حكاية واحدة باقية. وأن عليها أن تظل باقية، كما أن عليها أن تبقى وحيدة.

الاثنين، أكتوبر 17، 2011

في مسألة ماسبيرو

(1)
بعض التفاصيل الصغيرة، تصلح لتفسير المسائل الضخمة.. إذا كنا نتحدث عن "ماسبيرو" مثلاً، فيمكن الإشارة إلى أن المبنى مصمم على شكل حدوة حصان.

في كتاب ما كنت مضطراً لدراسته للحصول على شهادة الإعلام، كان هناك فصلاً غبياً يتحدث عن تصميم مباني البث الإذاعي والتليفزيوني.. ومن بينها شكل حدوة الحصان. الكتاب يقول أن مبنى ماسبيرو واحد من مباني قليلة في العالم مصممة على هذا الشكل، هناك مبنى أخر في الإتحاد السوفيتي المنهار على ما أذكر..

لماذا هو كذلك؟، سؤال وجيه، لأن الأستديوهات تحتاج إلى عزل عن الضوضاء من الخارج، لهذا، توجد مكاتب الموظفين على أطراف الحدوة، وتوجد الأستديوهات في الداخل.. طيب، فرضنا مثلاً.. العلم نور والهندسة لها أسبابها طبعاً.. لكن، هل هذه أسباب كافية ليصبح المبنى على شكل حدوة حصان؟.

قاعدته ضخمة للغاية، وخازوقه طويل وسميك، ممتد إلى السماء، هو التجلي الأول للقبح في مدينة لم تعرف قبله المباني الأسمنتية الصماء.

حكمة : لا تحتفظ في مدينتك الجميلة بمبنى على شكل حدوة حصان.

(2)
جرت العادة ونحن صغار، أن نذهب مساء الخميس إلى جدتي لقضاء نهار الجمعة معها كاحتفال أسبوعي بالأجازة. وكانت جدتي لديها تليفزيون. فيما كان بيتنا يفتقر إلى واحد مثله.

زمان، كان الأطفال ينامون مبكراً، ويستيقظون كذلك، وزمان أيضاً، كان التليفزيون يعرض برنامج اسمه سينما الأطفال صباح يوم الجمعة.

كنا نجلس أمام الجهاز العجيب نشاهد البرنامج الأعجب. وقضينا سنوات نشاهد بشكل أسبوعي حلقة جديدة من مسلسل تقوم ببطولته كلبة اسمها "لاسي"، وهي كلبة يفترض أنها ذكية وقوية ونشيطة، وتكاد تتحول إلى إنسان من فرط ما تقوم به من أشياء مدهشة.

في مرة من المرات، سألت أخوتي بينما نشاهد "لاسي"، ما الذي نفعله في أنفسنا؟، كيف نسمح لهم بالضحك علينا وجعلنا نصدق أن هناك كلبة تفعل كل هذه الأشياء؟.

بجوار التلفزيون، كانت هناك جهاز سنعرف بمرور الوقت أن اسمه "فيديو"، وكانت هناك عدة شرائط منها فيلم "الإرهاب والكباب". لاحقاً، تغيرت خطتنا بحيث أصبحنا نقضي نهار الجمعة في الفرجة على يسرا ترتدي فستاناً جميلاً.

الآن، تقضي طفلتي وقتها أمام إم بي سي، وبراعم، وسبيس تون، وكلها قنوات تعرض أفلام وبرامج أبطالها ليسوا كلاباً.

معادلة : إذا كانت طفلتي لا تشاهد "سينما الأطفال" والكلبة "لاسي"، فما الذي يفعله ماسبيرو في حياتنا؟

(3)
في المسجد يتحدث الشيخ عن التليفزيون المليء بالعري والنساء والأغاني والفحشاء. ويرى أن هذا حرام.

في الكنيسة يتحدث القس عن أن التليفزيون حرض الناس ضد الأقباط، ويرى أن هذا أيضا حرام.

في المقهى ينزعج الزملاء من أن المباراة تذاع على قنوات مشفرة ويمنون أنفسهم بيوم يشاهدون فيه منتخبهم الوطني على تليفزيونهم الوطني، ويعتقدون أن البث المشفر للمباريات حرام.

في الصعيد أخبرتني صديقة أن القناة الثامنة خير وسيلة لإجبار أطفالها على النوم، فهم يخافون من معظم مذيعينها. تضيف صديقتي : يا حرام.

سؤال : ما كل هذا الحرام؟

(4)
يذاع برنامج "صباح الخير يا مصر" في وقت مريب. بعضنا يستيقظ ويرحل إلى عمله قبل بدايته، وبعضنا يفعل هذا بعد نهايته. من الذي يشاهده إذن؟.

أبناء الطبقات الغنية لا يشاهدون القنوات التعليمية وبرامجها لأنهم - والحمد لله - يحصلون على دروس خصوصية في كل المواد. أبناء الطبقات الفقيرة لا يشاهدونها أيضاً لأنهم لا يملكون تليفزيوناً في البيت. من الذي يشاهدها إذن؟.

تمكنت صغيراً من معرفة سبب ممارسة أمي لبعض الطقوس الغريبة في البيت. كنت أراقبها وهي تفسد أشياء كثيرة في المطبخ. بمرور الوقت، ضبطتها مرة تشاهد برنامج "مجلة المرأة". ثم توقفت بعدها عن فعل هذه الخطيئة. من الذي يشاهد برنامج اسمه "مجلة المرأة" إذن؟.

علل؟!

(5)
إذهب إلى ماسبيرو وقف أمامه في تمام الثانية ظهراً. ثم راقب المشهد.

سترى سيدة في الخمسين، بدينة بعض الشيء، ترتدي خماراً كبيراً لونه أزرق أو بني، تحمل في يدها اليسرى حقيبة بلاستيكية بيضاء كبيرة، ويدها اليمنى مفرودة، أسفل علبة حلويات عليها شعار ماسبيرو، وهو عبارة عن رسم أسود كبير بذات شكل المبنى الضخم.

داخل العلبة، توجد قطع صغيرة من الحلويات، تقول الأسطورة أن الدور العاشر بالمبنى الضخم يحتوى على مطعم وكافيتريا، تقدم الحلويات والوجبات بأسعار مخفضة للعاملين.

تقول الحقيقة العلمية، أن العاملين في ماسبيرو عددهم يتجاوز الأربعين ألف. وحين تذهب إلى المبنى في الثانية ظهراً، ستشاهد عدداً كبيراً من العلب المرسوم عليها شعار ماسبيرو.

فكر : ما كل هذه الحلويات؟

(6)
يوجد في مصر شيء اسمه "حزب الكنبة"، والكنبة هي أريكة كبيرة مريحة، يطيب الجلوس عليها لساعات دون فعل أي شيء، عادة يمكن تسمية الجلوس على الكنبة بالأنتخة.

هذه الأنتخة، تحتاج عادة إلى نوع من التسلية وقتل الملل، بعض الدراسات تشير إلى أن أعضاء حزب الكنبة يميلون إلى مشاهدة التليفزيون المصري بينما يأنتخون على الكنبة.

تعتقد الحكومة، أن حزب الكنبة يقف في طريق تقدم الأمة واستمرار السلاسة البشرية وبقاء الحضارة. وهذه بالطبع أسباب كافية للتخلص من حزب الكنبة. لكنها ستصبح مجزرة، فكيف سنتخلص من كل هؤلاء؟.

توصل العلم الحديث إلى حقيقة تؤكد أنه بإغلاق قنوات التليفزيون المصري، سيختفي حزب الكنبة، بل لعلنا نصبح قادرين على التخلص من الكنبة نفسها.

أغنية شعبية : كل شيء يهون.. حتى التليفزيون.

(7)
مبنى واحد، قادر على قتلنا في منازلنا، حتى إذا هربنا منه ونزلنا إلى شوارعنا، نقتل أمامه، ويملأ الدم جدرانه الخارجية تماماً كما يملاً طرقاته الداخلية.

مبنى واحد. على شكل حدوة حصان، ينتج من الحلويات أضعاف ما ينتج من المعرفة. يحمل اسم اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والحقيقة، أن اتحاده فقط ضد الشعب ورغباته وأفكاره وإرادته.

مبنى واحد، لم يعد حتى مسلياً للأطفال، يختطفه بعض الكبار ويجلسون أعلى خازوقه يتحكمون في شاشاته الكثيرة، التي لم تذع يوماً ما هو أكثر إفادة من بيان تخلي المخلوع عن سلطته.

مبنى واحد، يكذب / يقتل / يحرض / يدمر / يشوه / يهدم.. ما فائدة وجوده في بلادنا إذن؟.

جواب نهائي : اهدموا ماسبيرو

الأحد، أكتوبر 16، 2011

القتل اللذيذ

نحن شعب نحب الفوازير، لكننا لا نحب حلها. تأمل معي هذه الحكايات وحاول أن تفكر..

في اعتقاد كاتب هذه السطور، فإن أخر مصري مات في مسألة تتعلق بالوطن وتمكن أبناء الوطن من معرفة لماذا وكيف وأين ومتى مات، هذا المصري الشهيد المغفور له، بالتأكيد كان مجند في الجيش المصري في حرب أكتوبر سنة 1973، وبحسبة بسيطة، فإن هذا التاريخ مر عليه ما يزيد عن 38 سنة..

طيب، الذين ماتوا بعدها..؟؟، تشاء الأقدار وحدها، ثم الحكومة المصرية، أن تبقى كل حوادث القتل مجهولة وغامضة ولأسباب مختلفة. وكأن قدر القتلى في بلادنا أن يموتوا مرتين.. الأولى بالرصاص، والأخرى بالتخمين في الأسباب الواقفة وراء مقتلهم..

تعالى نفكر، ضحايا حريق قطار الصعيد (2002)، لدينا على الأقل تسعة روايات مختلفة للحادث. وبما أننا في الصعيد، حاول أن تجاوبني بالسبب في محرقة بني سويف (2005) التي أكلت النيران فيها عشرات من شباب المسرحيين.. عاجز عن حل الفزورة.. حاول أن تحل الفوازير التالية إذن.

كيف غرقت العبارة (2008)؟، ولماذا؟، وأين هي الجثث المختفية؟، هل تعلم أن بعض أهالي الضحايا يعتقدون أن أبناءهم لازالوا على قيد الحياة؟، تعتبرها نكتة، هي نكتة تعيسة على كل حال.

وبما أننا جئنا بسيرة العبارة والقطار، وهي من وسائل المواصلات المعروفة في بلاد تركب الميكروباص والتكاتك مثل بلادنا، دعني أذكرك بحادث سقوط الطائرة المصرية في رحلة أمريكا (1999)، حاول أن تحصل على إجابة. كيف ولماذا مات ركاب الطائرة؟، ذكر نفسك بالتفسيرات العلمية والشعبية.. تذكر كيف خمنا كل التخمينات الخاطئة، ولم نصل في النهاية إلى أي شيء.

يا راجل، حتى المصريين عندما يموتون في الخارج تبقى ملابسات وفاتهم غامضة، سعاد حسني (2001)، أشرف مروان (2007)، وبينهما إيهاب الشريف السفير المصري في العراق (2005)، وحتى يا أخي مروة الشربيني شهيدة الحجاب (2009)، لا نعرف سبباً واضحاً لمقتلها.. لماذا؟، فقط لأنها مصرية تنتمي إلى بلاد تقتل أبناءها مرتين.

ثم، هل أتاك حديث موقعة الجمل (2011)؟، هل تعرف حقاً أين ذهب القناصة؟، طيب هل أنت متأكد من أن هناك قناصة فعلاً في وزارة الداخلية؟، هل شاهدت أحدهم بنفسك؟. من الذي قتل المتظاهرين إذن بالرصاص الحي؟ عاجز عن الإجابة.. قابلني في ماسبيرو..

من الذي قتل 24 قبطياً في ليلة واحدة (2011)؟، الجيش، الأيادي الخارجية، الأصابع الداخلية، البلطجية.. مرة أخرى تظهر في حياتنا كلمات تنتهي كلها بحروف "ية".. وجميعها لا يعني أي شيء في الواقع.

في صفحة الحوادث كنت اقرأ طفلاً عناوين تبدأ عادة بـ"النيابة تكشف ملابسات جريمة
الأسكندرية"، وفي دهاليز الخبر تقرأ عن المفتش العبقري الذي تمكن من الإمساك بطرف الخيط والوصول إلى الجناة.. أين هؤلاء العباقرة في حوادث قتل جماعي للمصريين. بعضها بثت وقائعها على الهواء مباشرة.

يا صديقي. إذا كان من حقك أن تموت مقتولاً في هذا البلد، فمن حقي أن أعرف كيف مت؟، من قتلك؟، لماذا قتلك؟.. ليس اعتراضاً على القتل لا سمح الله، فهذا وطن سيقلتنا حتى نقتله.. لكنه فقط ملل من الفوازير التي لا تنتهي.. عيب علينا أن نعيش ونحن نبكي على قتلانا فلا نعلم من الذي قتلهم.

يا صديقي، قتل المصريين صار قتلاً لذيذاً، لأن القاتل مجهول طوال الوقت، أرجوك، اترك لنا ورقة جوار جثتك تخبرنا فيها باسم قاتلك، لأن داخليتنا وخارجيتنا وحكومتنا ومجالسنا ما عسكر منها وما تمدن.. كل هؤلاء غير قادرين على حل الفزورة. من قتل المصريين بالأمس، ومن يقتلهم اليوم، ومن سيقتلهم غداً بإذن الله.. وعلى كل حال، البكا على رأس الميت، وإكرام الميت دفنه.. لكن إكرام الشهداء، ألا يتحولوا بمرور الوقت إلى موتى بقاتل مجهول.

ظروف صعيبة

يعتقد بعض الأطفال أنه إذا كان البرتقال لونه "برتقالي"، فإن اللبن لابد وأن يكون لونه "لبني". وبنفس المنطق، يعتقد صديقي أن هناك خطأ إملائي يتكرر في كل خطابات الساسة هذه الأيام.

كنا على المقهى، نجلس ونشاهد أحد الذين يظهرون في المؤتمرات الصحفية، وكالعادة، فقد قال بين كلماته.. "البلاد تمر بظروف عصيبة"..
سألني: عصيبة يعني إيه؟.
قلت : يعني عصيبة..
....

فكرت في انهاء حيرته، قلت، عصيبة يعني صعبة.
قال، طيب، إذا كانت عصيبة تعني صعبة، فهذا خطأ إملائي، كان المفروض أن يقول صعيبة وليست عصيبة..

فكرت، الكلام منطقي.. قلت : "عصيبة" جاءت من كلمة "عصب"، يعني البلاد تحتاج إلى أعصاب قوية هذه الأيام..
قال : عصب؟.
قلت : عصب..
سحب نفساً من شيشته وضحك قائلاً : ناقص تقولي جمعة العصب..
.....

سكت قليلاً، وشرب كثيراً من الشاي والقهوة.. وازدحم المقهى بعدد كبير من الشباب.. وبينما كنت أحدثه في موضوع آخر لا علاقة له بالبلاد، نظر إلي بغضب.. وقال :
على فكرة.. إنت بتقول أي كلام.. بقى عصيبة يعني عصب؟.

حاولت مناقشته، رفض، طلب الحساب ورحل. كان مؤمنا بأن الكلمة خاطئة، وأن الأفضل أن يقول الرجل على الشاشة أن البلد تمر بظروف صعيبة.

جلست نصف ساعة بعدها وحدي، ثم رحلت مبتسماً أشعر بالقلق تجاه المسألة.

الأربعاء، أكتوبر 12، 2011

في مسألة الموت لأجل الوطن

في القاهرة، يمكنك أن تسمع هذه الأيام كلام غريب عن أن الوطن يجب أن يعيش حتى وإن كان المقابل أن نموت نحن.

هنا فقط، يصبح الشاب أكثر أهمية لأنه قتل في المظاهرة وأوصى قبل وفاته بأن تمر جنازته على ميدان التحرير، أيقونة الثورة الأولى.

هنا فقط، نهتم لأمر الشهداء. فقط لا غير. ونسأل أنفسنا ليل نهار، ما الذي قدمناه لهم بعد موتهم.

في بلادنا، توجد لجنة لتعويض أسر الشهداء والجرحى خلال الثورة، اللجنة تضم بعض الوزراء، وبعض رجال المجلس العسكري، وبعض رجال القانون، بالإضافة إلى عدد من الأسماء المعروفة والمشهورة.. من الممكن أن نقول أن اللجنة تضم الجميع، لكنها في النهاية، مجرد لجنة.

هنا، في القاهرة، تتحول حكايات الضحايا إلى مواد للتسلية، نصنع عنها الأفلام، وتشتد المنافسة بين صناع الأغاني.. من يبكينا أكثر ونحن نتذكر شهداء الوطن؟.

ثم، نفكر في الأمر من زوايا مختلفة. فحين تهتم برامج التليفزيون بالشهداء أبناء الطبقات المتوسطة والعليا، يهتم نشطاء الإنترنت بشباب جاءوا من المناطق العشوائية، فتبقى القاهرة عدة أيام لا تنطق بغير "الفقراء أولاً".. لماذا الفقراء أولاً؟، لأنهم قدموا شهداء في الثورة، طيب، وإن كانت الثورة قامت وانتهت بلا شهداء، ما الذي كان سيحدث؟، وما الذي كان سيتغير؟.

ثم، أننا نمارس حيلة عاطفية قذرة، حين نترك الموضوع الأساسي ونجلس للبكاء، مات هذا الشاب وهو يدافع عن زوجته، لهذا المهندس طفلة لديها شهر واحد، كان هذا الشهيد يحلم بالهجرة إلى الخارج.. وهكذا..

طيب، بعض الأحياء أيضاً لديهم زوجات، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال ويحلمون بالهجرة.. من يهتم لأمرهم؟.. في الواقع هم لم يصبحوا شهداء بعد. من الممكن أن نهتم فقط لأمر القتلى، رغم أن حكمة مصرية قديمة تقول أن الحي أبقى من الميت.

كأنك تظن أني معترض على تكريم الشهداء أو تعويض أسرهم، إطلاقاً. بل على العكس. من الممكن أن نظل نكرمهم ونبكى عليهم ونطلق أسماءهم على شوارعنا وندفع نصف ميزانية الدولة لأسر الجرحى.. طبعاً.. هذا حقهم، لقد ضحوا بأفضل ما لديهم، حياتهم.

ما المشكلة إذن؟، المشكلة فقط، أن علينا ونحن نفعل ذلك، أن نتأكد أيضاً من اليوم سيمر دون مزيد من الشهداء. فتكريم الشهداء جزء منه، أن يبقى الشرف لهم وحدهم. دون أن يتم استهلاك الأمر. انتهت أحداث الثورة الأولى ونحن لدينا مائة شهيد مثلاُ.. فلنهتم بهم، بأن نجعلهم مائة فقط، لكننا نستمر في إضافة المزيد للرقم حتى ننام في القاهرة ونحن عاجزين عن حساب عدد شهداء اليوم الواحد.

الله، خلقنا كي نعيش، والأوطان موجودة كي تحيا ونحن بها، لأنها تحيا بنا ونحيا بها. كيف وصلنا إذن إلى حال نرى فيه الشهادة حل؟.. الشهادة وسيلة. لكن علينا أن نذكر، أن الوطن الذي نموت فيه، ليس وطناً، من الممكن أن يكون مقبرة جماعية..

الشهداء سيدخلون الجنة، لأن هذا حقهم عند الله، للكن حقهم لدينا، أن نمنع أنفسنا من التحول لشهداء واحد تلو الآخر. حتى هذه اللحظة، أبكي على الشهداء بنصف عين، ربما لأني لم أفقد في الثورة صديقاً مقرباً.. لكن، إن مات أحد أصدقائي مقتولاً لأجل الوطن، لعلي أفقد القدرة على البكاء. وأملك القدرة على كراهية الوطن.

معظم أصدقائي يعتقدون أن الحياة دون وطن، أفضل من الموت لأجل الوطن. لأن الله وهبنا الحياة أولاً ثم اختار لنا الوطن. فمن الممكن أن نعيش بدون وطن. لكن من المستحيل أن نشعر بالوطن ونحن نموت – فقط – على أرضه، دون أن نملك القدرة للحياة بشكل حقيقي فيه.

الموت كريه. ما الفائدة من محاولة تجميله؟، ما الفائدة من القول بأن الشهداء يعيشون الآن حياة أفضل؟.. هذا غير حقيقي. الشهداء ماتوا. ينالون قدر كبير من المتعة في السماء، لكنهم ماتوا. قتلوا. اخترق الرصاص أجسادهم. الشهداء تألموا، والأمهات مصابات بالقهر.. الموت كريه، وسيبقى كريه، حتى وإن كان لأجل الوطن.

ثم أننا نفضل دائماً أن نبكي فقط، هل فكرنا يوماً أن لدينا مسئولية ما عن هؤلاء القتلى؟، هل حافظ الآباء على حقوقنا قبل أن نولد، هل اجتهدوا لإقامة مجتمع يمكن أن تحل فيه المشاكل بطرق أخرى غير القتل؟، هل دافعنا عن قيمة الحياة؟، هل اعترضنا على القتل بشكل عام، هل نكره حوادث الطرق والعبارات الغارقة والقطارات المتصادمة والأوبئة المنتشرة.. نحن نفقد احترامنا التدريجي للموت. رغم أن الموت هو الموت.

منذ عامين، كانت الصحف اليومية تتنافس في إضافة رقم جديد في عداد ضحايا فيروس حمل اسم أنفلونزا الخنازير.. بعد مرور أسبوع، أصبحت الزيادة في الرقم عادية.. بل أننا لاحظنا في الأسبوع الخامس أن الرقم يزداد ببطئ، فحمدنا الله أن الوباء انتهى.

ما فائدة شهداء العبارة إذا كانت العبارات تسير بعدها دون صيانة؟، ما فائدة شهداء القهر إذا كان القهر مستمر؟، وما فائدة شهداء الفتنة إذا كانت الفتنة لم تعد أشد من القتل؟.. ما فائدتنا كأحياء وقد صرنا نلتقي في الجنازات وحفلات التأبين، وكفانا الله شر الحياة.

ما الفائدة من أن نصنع في اليوم التالي لاستشهاد صديقنا صفحة على الإنترنت نسميها "كلنا صديقنا".. ثم ينضم لها الملايين. في الواقع، ربما يكون من الأفضل أن نسميها "كلنا هنا حتى نمنع أنفسنا من أن يلاقي واحد آخر منا مصير صديقنا". لأن صديقنا نفسه كان يتمنى أن تستمر حياته، وهو قد يشعر بالسعادة حين يعلم أننا صنعنا هذه الصفحة. سيشعر بالسعادة، لكنه.. لن يشعر بالحياة.

قبل أن نصنع للموت هذه القيمة، من الأفضل، أن نصنع للحياة قيمة أكبر. وقبل أن نسأل أنفسنا، ما الذي قدمناه للشهداء بعد رحيلهم، من الممكن أن نسأل، ما الذي قدمناه لهم وهم أحياء؟. وقبل أن نقول أن الوطن يجب أن يعيش وإن متنا نحن، علينا أن نفكر.. هل يستحق هذا الوطن الحياة، وهو يقتلنا واحد تلو الآخر، ولأسباب متعددة..

المجد للشهداء، وللأحياء أيضاً.